https://soundcloud.com/ahmad-mantawy/track
ينطلق أرغن "يوسف" هادرا متمردا صائحا في وجه
أبيه والحارة والأزقة المجاورة ... ينطلق صارخا بحلق قد تشقق من الصياح قديما ...
مهتزا كمن يصرخ لأول مرة وهو الذي أعتاد الصراخ ثم أثر الصمت لفترة حين لم يجد من
يستمع ... يصرخ بعيون قد جفت من قساوة الحزن إذا كبح جماح البكاء وضنّ بقليل من
الدمع علي تلك العيون التي أبصرت وأبصرت حتي كلّت ...
ينطلق أرغن "يوسف" صارخا حتي يقاطعه عود أبوه "حسني"
متساءلا " فيه أيه ؟ "
يعاود أرغن "يوسف" الصراخ مشيرا إلي الخارج ...
"أنا خارج"
"عجز ... قهر ... قرف ....باقيلي فيها أيه ؟ ... منتاش شايف العك ؟"
"وتسيبني ؟ تسيب أبوك ؟"
تقرع أوتار العود مشاعر أصر "يوسف" علي
كتمانها ... كيف يهرب من رائحة الزقاق الذي ترعرع فيه ؟ رائحة التراب إذ تم كتمه وإحباط محاولات تطايره
بالماء ؟ كيف يعتاد شروق شمس لم يألفه إلا من شباك غرفتة الخشبي إذ أرتمي علي
الأرض بزاوية معينة حتي يلتقط منظراً صافياً للسماء متجنباً تلك العمارات الشاهقة
البعيدة التي قبّحت منظر السماء والتي حاول أصحابها جاهدين منع الشمس عن البيوت
الفقيرة ، كيف يعتاد رائحة غير رائحة الصباح المعبق بالعوادم ، المبلل بعرق
المجتهدين ، كيف يعتاد صفو الصمت بعد ان طربت أذناه صوت السيارات والموتوسيكلات
وبائع الجرائد و سارينة بائع اللبن يعزفزن جميعا أنشودة العمل !
"زهقت"
يعاود أرغن "يوسف" الصياح بسرعة قبل أن تهزمه
أوتار عود "حسني" ويغلبه الشجن
"تعبت"
يصرخ بها عاليا بنغمة جديدة علي أذان "حسني" و
يرد عليها بأوتاره وأبتسامته محاولا كسب وده
" وتفتكر أنا متعبتش ؟"
وهنا يأتي السؤال ... حتماً تعب "حسني" ... حتماً
أشتاق لأن يري شيئاً جديداً بعيداً عن الأزقة ودار السينيما و الشوارع المحيطة ...
نعم أشتاق ذاك الذي أنطفأ النور عن عينيه ولكنه لم يفقد البصر ....
"أنا بشوف أحسن منك في النور وفي الضلمة" كان
يرددها مراراً علي مسامع من حوله
"مشكلة أبويا أنه مش عايز يقتنع أنه أعمي"
رددها "يوسف" ساخراً ولكنه في قرارة نفسه لم يكن قادراً علي أن يجزم
بحقيقة عمي والده !
في الحقيقة كان "حسني" يتوق أن يعزف الأرغن
طوال عمره ... لكنه كان يخشي نظرات "عم مجاهد" المعاتبة ... "عم
مجاهد" الذي ما كانت عيناه تلتقيان بعيني "حسني" حتي يرتبك حسني وينهال
علي مفاتيح الأرغن بينما يمسك "عم مجاهد" بالعود ....
كيف مزج "راجح داود" عراقة الغرب متمثلة في
أرغن "يوسف" و أصالة الشرق متمثلة في عود "حسني" ؟
العود والأرغن في داخل كل منهما علي حدة ...
أنه شئ غير مفهوم ولكنه واضح كالشمس ... كلاهما يعشق
الندي والضباب الذي تسبح فيه وسط البلد ، كلاهما يعشقان رائحة قنابل الغاز ويهربان
منه ، كلاهما يحفظ الأزقة التي تصل بين محمد محمود و مجلس الوزراء و الشيخ ريحان و
قصر الدوبارة .... كلاهما لهما ذكريات في الأسكندرية ... كلاهما عزفا الأرغن في
الخفاء ...
ما الذي يجعل "يوسف" ينتظر وقد يصير ك "سليمان"
إذ هجرته "روايح" ؟
"حسني" يتظاهر بالوقوف علي الباب مانعا وفي
داخله يصرخ : أهرب يا "يوسف" متكتفش روحك هنا زيي
ولكن "حسني" يمسك بأهداب "يوسف" قبل
أن ينطلق ويصرخ فيه .... عد يا "يوسف" .... لا تغادر يا "محمد هاشم"
... أبق ...
اللعنة !! ... ألا يزال الدمع عصيا إلي هذا الحد !!
من سيشاهد سرب الطيور المحلق في السماء ؟ من سيتعجب
ويقسم أن شحاذين القاهرة اللذين يظهرون في الفجر حاملين جوالات مجهولة الفحوي
محنيي الظهور مكرمشي الوجوه يظهرون ويختفون حيث لا ندري هم وحدهم حاملي أسرار
الكون !
من سيقف في طابور الفرن ؟ من سيبتاع الجريدة ويخبئ فيها
مجلة ميكي ؟ من سيركب الأتوبيس ليقرأ المكتوب علي ظهر الكراسي ؟ " أحمد و
سهام للأبد ... للأبد ؟ وحتي تحترق النجوم وحتي .... " لأ ... هذه خاصة برفعت
أسماعيل وماجي ....
من سيبتاع الفول ؟ من سيبقي ليسقي الزهور التي لا تنموا
علي سور البلكونة ؟ من سيقف بالفانلة الداخلية ليشرب الشاي في البلكونة ؟ من سيبقي
ليكتب شعرا علي أوراق ينسي أماكنها ؟ من سيبقي ليسير في شوارعها في الشتاء ؟ من
سيبقي كغضاريف لهذا البلد مطحون ومجهول ؟ من سيبقي لأنه لا يعلم لماذا هو باق
ولكنه باق ويجب أن يبقي ... يبقي ليعزف الأرغن والعود معا ....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق