أخضر يابس
من الأفلام المصرية القليلة التي رأيتها مؤخراً التي تم
فيها إستغلال عناصر الصوت و الصورة بشكل مدروس يعكس وعي محمد حمّاد للأدوات السينمائية التي بين يديه، و إدراكه لطبيعة الموضوع المُقدم، و
مهارته في تطويع تلك العناصر لتساهم في إيصال الحالة التي تطرحها القصة.
الفيلم غني بالتفاصيل بدون تشتيت، بسيط لكنه غير سطحي،
يغوص بك إلي أعماق بدون حذلقة... بإختصار، هناك إتساق بين عناصر الفيلم بشكل يستحق
الإشادة!
يطرح الفيلم قضية قديمة – متجددة. ربما يضايقك أنها قُتلت
بحثاً لكن حتماً سيغضبك أنها لا تزل موجودة إلي يومنا هذا!
بداية من اللقطة الإفتتاحية للفيلم يمكنك أن تلمس الصراع
النفسي للبطل، أو حالته بشكل عام. فإيمان إمرأة ثلاثينية بسيطة ذات جمال طمسته
قسوة الواقع و غطاه غبار الفقر و الكدح، و نفسية تطحنها الحياة يومياً تحت قضبان
مترو قديم صدئ يحمل البطلة ذهاباً و إياباً لعملها، تقف أمام بعض أصص الورود
متسائلة: "هل من أمل؟"!
إن إستخدام المترو القديم يُعد عامل بصري رائع، و هناك
ربط بين هذا و طبيعة و قصة إيمان. فالمترو الذي أصدرت الدولة قراراً بتكهينه و
الإستغناء عنه نهائياً لأنه لم يعد يصلح لخدمة المواطنين و إستخدامهم لأنه لم يعد
يناسب طبيعة و سرعة الحياة، و لم يعد يواكب تطور المجتمع و سرعته لقِدَمِه!
لذا، فهذا
المترو يعلم يقيناً أن حكم الإعدام بحقه قد صدر بالفعل و ها هو ذا يلفظ أنفاسه
الأخيرة، يعي أنه هالك لا محالة، و يعمل حتي تطاله رصاصة الرحمة!
و إيمان تعي هذا عن نفسها. فقد فاتها قطارالزواج كما
يقولون نظراً لتقدمها في العمر و نظراً لطبيعة أسرتها البسيطة و حالتها الإجتماعية
المتواضعة! و لكن هناك بعض الأمل الذي لا يزل يراودها!
هناك موضوع Theme أساسي يطرحه الفيلم وهو "صلاحية" الفرد
منا، و قد لعب محمد حمّاد هذه النغمة بشكل جيد حين استخدم المترو القديم المتهالك،
و ثلاجة الحلويات التي عجزت محاولات إصلاحها عن الإتيان بأي نتيجة فأتُخِذَ قرار
بالإستغناء عنها و طرحها بالمخزن، ثم نهاها بالحائط الهش الذي خربته المياه من
الداخل و لم يعد يقو علي حمل مسمار في إشارة بعيدة لما سيؤول إليه حال إيمان من
عدم صلاحية - بمنظور المجتمع - للزواج أو تحمل إقامة علاقة تبعاً لمنظور ذكوري بالٍ،
غير مُنصِف و غير منطقي!
الحوار في الفيلم غير طويل و لم يأخذ حيز كبير، وهو ليس
عيباً علي الإطلاق، بالعكس، كان رتيباً و مقتضباً و طبيعياً إلي حد كبير بشكل ساهم
في التأكيد علي واقعية الفيلم! و أستمر محمد حمّاد – بدون حذلقة – في إستخدام
العناصر البصرية بشكل أغناه عن الحاجة لإستخدام الحوار.
غابت الموسيقي بالكامل عن الفيلم، و لعل هذا من العناصر
التي تُحمد لعدة أسبابز
فأولاً: حياة الفتاتين كئيبة، مليئة بالوحدة و الملل، و الموسيقي
في الحياة العملية تلازم الفرد في وحدته لتعبر عن حالته، و تساعده علي التعبير عن
مشاعره، لكن في حالة الفتاتين لم يكن هناك سوي الوحدة و الألم و الفراغ و الملل، و
تفريغ الفيلم من الموسيقي ساهم في توصيل تلك الحالة للمشاهد أيضاً.
و ثانياً: بعض المخرجين مثل أندريه تاركوفسكي و جعفر
بناهي يتبعون مدرسة اللا موسيقي في أفلامهم لإعتبارهم أن السينما هي مرآة للواقع،
و الواقع لا يوجد به هذا الكم من الموسيقي التي تزخر بها الأفلام. لذا، فمن الواجب
ألا يتم استخدام موسيقي تصويرية في الأفلام... قد تتنفق أو تختلف معهم إلا أنك في
تناولك لـ أخضر يابس لا تستطيع أن تنكر أن غياب الموسيقي كان نقطة إيجابية تُحسب
في صالح محمد حمّاد.
ربما بعض المآخذ علي الفيلم هو بطء الإيقاع و غياب بعض
الوضوح في قصة البطل "إيمان"
-
الفيلم بطئ نوعاً ما. بغض النظر عن أن هذا هو طبيعة حياة الفتاتين بالفعل،
و هذا هو إيقاعهم اليومي الذي كان من الواجب إيصاله، لكن الإصرار عليه فرض نوعاً
من الملل طوال النصف ساعة الأولي من الفيلم!
-
إيمان، بطلة الفيلم مستهلكة و مستنزفة طوال الوقت في صراعات و أهداف شخصيات
أخري، و لكن الفيلم لم يلمس حاجتها الشخصية و هدفها و رغبتها، أشواقها و أحلامها
الفردية بشكل كافٍ. مفهوم أن الظروف كانت أقوي منها، و أن صراعها لتوفير
"رجل" يحضر خطوبة نهي أختها طغي علي أحلامها الشخصية و تحدياتها الفردية
و فرض نفسه كقصة الفيلم، و طمس رغباتها الشخصية و أحلامها لكن هل كانت تعيش بلا
أمل و بلا غاية؟ بلا هدف ولا حلم؟ لا....
فعلي الرغم من أنها لم تُعِر حالتها المَرَضية
الإهتمام و المتابعة الكافيين، و لم يشر الفيلم إلي أنها كانت قلقة بشأن نتيجة
التحاليل، إلا أنه من الواضح أنها كانت تشغلها قصة و قضية ما حتي و إن عجز الفيلم
عن متابعتها بشكلٍ مرضٍ... "أحمد"!
نعم، فهذه الفتاة لا تزل متعلقة بأهداب قصة
رومانسية، لازالت متمسكة بأطراف خيط ضعيف مهترئ. لا تزل صورة أحمد تزين كيس نقودها
حتي بعد أن علمت أنه تزوج، لا تزل تضع القرش علي القرش و توفر مبلغاً تضعه في كيس
أسود بعلبة الخياطة تَحَسُّباً لإحتمالية إحتياجه إن عاد "أحمد"!
إن تعمدها تجاهل أحمد أثناء الزيارة، و
معاملته ببرود، و إعطاءه ظهرها طوال المقابلة مع والده لهو إشارة في غاية الوضوح
لمكانته عندها. إشاراتها الجسدية، و حديثها المختصر المقتضب معه يتناسب طردياً مع
مكانته بعقلها و بقلبها!
لكن لِمَ لم يظهر مبكراً بما يكفي؟
عندما ظهرت صورة أحمد لم نعرف أنه صورته، و
لم تدل علي شئ محدد، فقد تكون صورة أخيها الذي توفي، أو صورة أي شخص أخر... ربما
لو كان قد تم ذكر أن هذا هو أحمد لفهمنا - بشكل كاف – صراعها الفردي، و لوضعنا
أيدينا علي هدفها و دوافعها منذ البداية، و لكنا أرتبطنا بقصتها الشخصية و إندمجنا
أكثر معها – كفرد – في معترك صراعها الذي جرّتها إليه أختها بقضيتها الأخرى، و
لأصبح هناك سؤال منذ البداية، هل ستلتقي بأحمد مجدداً أم لا!
-
إنتهي الفيلم نهاية مقتضبة متوقعة تليق بحالة الفتاتين، فلا عريس أتي - أو
أتي و لم نره لأن هذا لم يعد مهماً - ولا إيمان وصلت أو أنتقلت لنقطة إيجابية، بل
كان فَضّها لغِشاء بكارتها إستسلاماً للواقع المفروض عليها! و رغم أن الفيلم كان
معالجة صادقة للواقع، إلا أنه ينقصه النقلة الإيجابية التي تمنيناها للبطلة و التي
قد تعمل ك مؤثر أو محفز influence
لكثيرات كإيمان.
إن فضها لغشاء البكارة في أخر الفيلم – رغم
أنه قد يُصنف كفعل سلبي حيث أنه لم ينبع من فكر متجدد تحرري أو تمرد نتيجة إدراك realisation
- بعد أن أيقنت أن صلاحيتها كأنثي في نظر أحمد قد إنتهت نظراً لضياع الأمل طبياً
في قدرتها علي الإنجاب نقطة في غاية القوة و التعقيد تبرز بشكل بارع و مؤلم في ذات
الوقت تشابك القيم و المبادئ في الفكر الذكوري الذي –للأسف - ألقي بظلاله و تأثيره
علي فكر الأنثي و نظرتها لنفسها!
هذه النقطة بالذات تستحق الوقوف و التأمل
كثيراً و كثيراً... لكنها وثيقة الصلة بفكرة أن إيمان - رغم الملل و الضجر و
الفراغ - كان لا يزل لديها بعض الأمل في أنه قد يكون لها حياة أفضل مع شريك...!
لم نفاجأ بأن إيمان كان لديها بعض الأمل حين
فعلت هذا، كانت هناك بعض الإشارات طوال الفيلم، لكنها كانت قليلة للغاية، و علي
الرغم من أنها تناسب حجم الأمل الذي كان لدي إيمان، إلا أنها كان من الأفضل أن يتم
توضيحها قليلاً للجمهور ربما عن طريق ربطنا من البداية بالخط الأساسي وهو توقها
لأحمد!
هناك بعض العوامل البصرية الجيدة التي تحسب
للفيلم أيضاً، علي سبيل المثال:
-
عمل إيمان بمحل الحلويات رغم مرارة حياتها الشخصية.
-
ستائر البيت، و ما تمثله من حاجة الفتاتين لرجل يقوم بال"ستر"
تبعاً للمنظور المجتمعي لدور الرجل و المرأة.
-
الزوايا و الكادرات خاصة في لقطات تجمع الأختين معاً.
-
الإضاءة الباهتة و التكوينات نصف الممتلئة و المزدحمة و إستخدام المرايا
عكس بشكل جيد جداً حالة الأختين و الفيلم!
نهايةً... الفيلم جميل سينمائياً رغم الكآبة
الناتجة عن القضية المطروحة، متسق العناصر، متكامل، ممتع و محفز فكرياً، و مبشر
بأعمال جيدة في الطريق من مخرج واعٍ و واعد كمحمد حمّاد...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق